ثانيا : إعصار سنة 251هـ الموافق 865م
وهذا الإعصار يعتبر من أهم واٌقوى الأعاصير التي ضربت عمان قديما والتي حفظها لنا المؤرخون وتناقلتها الأجيال جيلا بعد جيلا ، ونتيجة للخسائر البشرية والمادية الجسيمة المترتبة على هذا الإعصار فقد ظلت الكثير من المناطق التي عصف بها غير معمورة لفترة طويلة من الزمن بعد أن كانت تزدحم بالحياة والعمران ويسودها التقدم والإزدهار .
وقد ذكر هذا الإعصار المؤرخون العمانيون ومنهم الشيخ العلامة المؤرخ السالمي في كتابه ( تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان ) ، وعددّ المناطق والمدن التي شملها الإعصار وذكر منها ـ حسب التقسيم الإداري الحالي ـ ( محافظة مسقط ، ومنطقة الباطنة ، والمنطقة الداخلية ) وما يشملها ويتبعها من قرى وحواضر كـ : بدبد وقيقا وسمائل ودما وصحار ومزرع بنت سعد وغيرها من القرى .
وهذا الإعصار وقع في زمن الإمام الصلت بن مالك الخروصي ( 237هـ ـ 272هـ ) وذلك في ليلة الأحد 3 جمادي الأولى سنة 251هـ الموافق 6 يونيو سنة 865 م .
حيث وصل الإعصار في تلك الليلة إلى الشواطيء العمانية وسقطت أمطار غزيرة فاضت بسببها الأودية والشعاب ، فنزلت السيول ولها هدير يصم الآذن ، فحملت ما وجدته أمامها من بشر وشجر ، وحجر ومدر ، ودمرت القرى والحواضر ، فجعلتها هباء منثورا ، فانعدمت فيها الحياة وتدمرت المباني وانهارت المساجد ، واختلط مداد المخطوطات والكتب العمانية التي لا تقدر بثمن بالمياه الهادرة فتلاشى في غمضة عين جهد وعناء الكثير من العمانيين في المجال الثقافي والإقتصادي والعمراني .
حيث وصف الإمام السالمي ما جرى أبلغ وصف فيقول : ) وفي سنة إحدى وخمسين ومائتين كان بصحار وبعمان السيل الكثير وانهدم دور كثير ومات فيه ناس كثير وغرق السيل عامة عمان وبلغ الماء مواضع لم يبلغها قبل ذلك فيما بلغنا ( . ( تحفة الأعيان ج1 / ص 161 )
ويقول أيضا ( لما كان ليلة الأحد، لثلاث ليال خلون من جمادي الأولى سنة إحدى وخمسين ومائتين سنة ، نزل أمر فظيع عجيب ببدبد ، وقيقا ، والباطنة ، وسمائل ، ودما[السيب] وصحار ، أمر عظيم جليل ، ونزل عليهم من الليل ، وثمارهم متعلقة في نخيل محدقة ، فجاءهم دوي وظلمه وهوى وهول مفظع وأمر مطلع، فعناهم في ذلك بحيح وصياح وعجيج ، واستهلت السماء فأدفقت عليهم من الماء ، فبينما هم كذلك .. إذ جاءتهم السيول فأحدقت ، وعليهم من المسائل أودقت ، وهم في منازلهم خائفون مما نزل بهم ، فقلعت السيول المنازل والأموال ، وغرقت النساء والرجال ، فغرق الرجل وعياله، وتخرب منزله وماله ، فأصبحوا في ليلة واحدة ، أصواتهم خامدة ومنازلهم هامدة ، فهدمت السيول مساكنهم ، وأخرجتهم من أوطانهم ، وحملت إلى البحور أبدانهم ، وقلعت الأشجار ، وأغارت الأنهار(الأفلاج ) فأصبح السالم الموسر منهم فقيرا ، يطلب الأكل والشيء اليسير ، وأعظمهم جائحة وأشدهم فادحة أهل بدبد وقيقا ، وتفرق من بقي منهم في البلدان وتركوا الأوطان ، وخربت المواضع والعمران ، حتى إنه ليمر بها الإنسان فتأخذه لمنظرها رهبة ) ( تحفة الأعيان ج1 / 162 )
ويقول كذلك عن هذه الحادثة : ( نزل أمر عظيم بقيقا ، وسمائل ، وبدبد ، ودما ، وصحار ، وصارت الباطنة في منزلة المال المجهول ربه لا يعرف ولا يكاتب فيها ، وأما صحار فخربها وادي صلان ) . ( تحفة الأعيان ج1/ص162 )
والظاهر أن هذه الحادثة هي التي ذكرها الأديب الأريب اللغوي العماني ابن دريد ( ت 321هـ ) الذي كان موجودا في عمان آنذاك حيث يقول : ( كنت بعمان مع الصلت بن مالك الشاري وكانت السنة كثيرة الأمطار ودامت على الناس فكادت المنازل أن تنهدم فاجتمع الناس وصاروا إلى الصلت وسألوه أن يدعوا لهم فأجل بهم أن يركب من الغد إلى الصحراء ، فقال لي : " لتخرج معي غد" فبت مفكرا كيف يدعو ؟ فلما أصبحت خرجت معه فصلى بهم وخطب دعا فقال : " اللهم إنك أنعمت فأوفيت وسقيت فأرويت فعلى القيعان ومنابت الشجر وحيث النفع لا الضرر " فاستحسنت ذلك منه )
فما أشبه الليلة بالبارحة وما أصدق هذا الوصف الذي ذكره الإمام السالمي والذي كنت أظن أن فيه نوعا من المبالغة على ما شاهدناه بأم أعيننا في الإعصار الذي ضرب عمان في 6 يونيو سنة 2007م .
والعجيب في الأمر هذا التوافق العجيب بين الإعصارين حيث وقعا في نفس التاريخ فذلك في 6 يونيو سنة 865 م وهذا في 6 يونيو سنة 2007م . فلله ما أعجب هذا التوافق بين الحدثين .
|