الـفـصــل الأول
((يجب أن أطرق أبواب المجد بعزم وإصرار)). .هكذا قال عصام في نفسه،
وهو يعبر الشارع إلى الطرف الآخر، في طريقه إلى شركة ((التجهيزات العلمية))
لشراء مجهر ومجموعة من الأدوات المخبرية التي قررأن يجعلها نواة لمختبر متواضع
أزمع على إقامته في غرفة خاصة اختارها لهذاالغرض.
وفي الطريق صادفته مكتبة فخمة تألقت واجهتها المضيئة بمجموعة من الكتب المنوعة
وقد رتبت بذوق وإتقان، فوقف يتأمل عناوينها، ثم ما لبث أن دلف إلى داخلها .
وراح يتجول في أرجائها ، وقد ملئت رفوفها بآلاف الكتب والمجلدات ،
فأعجبته طائفة من الكتب العلمية التي شدته موضوعاتها الشيقة فحملها معه ،
كما استهوته طبعة أنيقة (( لدائرة المعارف البريطانية )) فطلب من البائع أن يحضر
له نسخة منها ثم دفع ثمن مااشترى وحمل كتبه ومضى ...
* * *
كان عصام طموحا جدا ، وكان أهلا للطموح ...فقد وهبه الله ذكاءً متوقدا ، وفضولاً ملحاً ،
يبحث عن المجهول ، ويسعى نحوكل جديد ، أضف إلى ذلك إرادة صلبة وهمة عالية ،
وعزيمة تهزأ بالصعاب ...
وكثيراما عبر أساتذة عصام –خلال تاريخة المدرسي الحافل- عن رأيهم فيه بقولهم
((إنه فلته من فلتات الزمان))حتى أن أستاذين من مدرسي مادة الرياضيات في المدرسة
تراهنا ذات يوم على من يسأل عصاماً سؤالاً صعبا يعجز عن الإجابة عليه
على أن يكون من ضمن المنهاج المقرر، فكان أن خسرا الرهان
وازداد إعجابهما بذكاء عصام وتفوقه غيرالعادي، لدرجة أن أحدهما كان يستدعيه
كلما صادفه طالب كسول من طلاب الشهادةالثانوية يتلكأ في حل التمارين الرياضية
التي كان قد تعلم حلها في السنوات السابقة،فيحلها له عصام بسهولة تنم عن تمكنه وثقته بنفسه،
فما يكون من ذلك الأستاذ إلا أن يأمر طلابه بالتصفيق ثناء عليه،
ثم يتوجه إلى تلميذه المهمل بقوله : ((لعله يكفيك عقاباً أن يحل لك التمرين طالب يصغرك بثلاث سنوات دراسية... يعني مرحلة دراسيةكاملة))
ثم يشكر الأستاذ عصاماُ على اجتهاده فيمضي مزهواً بنفسه، فخوراً بسمعته،تياها بما أنجز...
بيد أن تفوق عصام لم يكن يتقصر على مادة ((الرياضيات)) فحسب،بل تعداها إلى كل المواد الدراسية الأخرى،
لا سيما مادة ((علم الحياة)) التي كانت تجذبه فيجد فيها متعة كبيرة.
وقد دفع اهتمامه الزائد بهذه المادة الأستاذ ((عدنان))مدرس (علم الحياة) إلى أن يطلق عليه
لقب ((الدكتور عصام)) مداعبا ومشجعاً، فجاء هذااللقب بغتة وذهب مثلا،
فما لبث أن لصق باسمه، فكان ينادى به في المدرسة والبيت.
وعندما ظهرت نتائج الشهادة الثانوية، تحول لقب التشجيع والإطراء إلى لقب هو أقرب ما يكون من الحقيقة...
فقد كان عصام الثالث على دفعة الشهادة الثانوية لذلك العام، مما أهَّلَه لدخول كلية الطب بجدارة.
وفرحت أم عصام يومها فرحاً عظيماً،عندما زفَّ عصام إليها النبأ، فضمته إلى صدرها في حب وحنان وراحت تلثم وجهه، وهي تهتف من بين الدموع ((مبروك يا حبيبي ... أنا اليوم أسعد أم في الدنيا ... مبروك ياولدي)).
واختلطت في عينيها دموع الفرح الكبير بدموع الحزن القديم على زوجها الفقيد
الذي اختطفته يد المنية قبل أن تقر عيناه بدخوله ابنه كلية الطب كما كان يحلم ويشتاق،
إذ توفي قبل سنوات إثر نوبة قلبية مفاجئة.
وانتزعت الذكريات الحزينةالأم من فرحتها العارمة، لتنقلها إلى الوراء...
فتمتد بها الذكرى إلى تلك الأمسيةالجميلة، حيث كانت مع زوجها الراحل،
تضمهما سهرة سمر في حديقة المنزل، بينما كان عصام – وله من العمر يومها ثلاث سنوات
يداعب قطته ((ياسمين)) التي كان يألفهاوتألفه...
إنها لا تزال تذكر كلمات زوجها الحبيب حينما قال لها ونظراته تعانق وجه ابنه الوسيم :
- هذا الطفل يا هيفاء يملك ذكاءً عجيباً.. علينا أن نتعني بهاعتناءً فائقا، حتى يشب رجلاً عظيماً، ويحمل العبئ عن كاهلنا في مستقبلالأيام.
- أجابته يومها وهي تمازحه:
أتمنى لو يصبح إبني مهندساً كبيراً،ليبني لنا ((فيلا)) جميلة تحف بها الحدائق والأشجار...
فاستجاب الأب لدعابتهاوقال بلهجة ضاحكة:
- أنتن النساء دائماً هكذا لا يهمكنَّ إلا المظاهر والقـشـور،ولا تفكرن إلا بـ ((الفيلا )) الفخمة والثوب الجميل...
- ثم اعتدل في جلسته وتابع بنبرات حالمة:
- أريده يا أم عصام أن يصبح طبيباً كبيراً... يساعد الناس ويداوي أمراضهم ويخفف آلامهم، والطبيب يا امرأة... يملك اليوم مكانة إجتماعيةمرموقة، ويشير الناس إليه بالبنان، لا سيما إذا كان ناجحاً مشهوراً...
- ثم أردف وقد عادت إليه روح الدعابة من جديد:
ثم لا تنسي يا عزيزتي أن مهنة الطب تدرالمال الكثير، وبذلك يحقق لك حلمك فيشتري لك ((الفيلا)) التي تتوقين إليها.
لقدالتقطت يومها عصاماً، فضمته إلى صدرها في حنان وقالت وهي تغرقه بالقبلا ت:
- بل يشتريها لزوجته التي لا بد وأنها ستختطفه مني في يوم من الأيام....
وانتبه عصام لشرود أمه، وطالع في وجهها ملامح الحزن والكآبة فأدرك ما تفكر به لأنه كان يعاني من الخواطر ذاتها، لذا فهو يشعر اليوم أن فرحته عرجاء، موشحة بالحزن، منداةبالدموع، لأنه لا يجد أباه بقربه، يشاركه بهجته، ويبارك فوزه الكبير...
ورأى أن من واجبه أن ينتشل أمه من دوامة الذكريات فقال لها مواسياً:
- أماه.. سوف تجدين مني كل ما يرضيك ويقر عينيك، وسوف أنسيك عما قريب كل أحزانك القديمة.
ثم ضمهاإليه ليخفي عنها الدموع التي ترقرقت في عينيه أسفاً على أبيه الذي مات عنه وهو مازال طفلاً،
فنشأ يتيماً محروما من حنان الأب وعطفه، وإن كانت أمه قد عوَّضته عنهالكثير.
إنه يشعر أن أمه هي كل شئ في حياته.. إنها الواحة الخضراء التي يلجأإليها من قيظ الأحزان
ليجد عندها الراحة والسلوى والعطف والإهتمام.. إنها المعلم
الملهم الذي يتلقى عنه مبادئ الحكمة ودروس الحياة...
لقد لعبت أمه دوراً كبيراًفي تكوين شخصيته، فقد ربته على الأخلاق الفاضلة،
وغرست في نفسه حب العمل والصبر على التعب، وعوَّدته على احترام الوقت والنظام،
ونأت به عن الدلال والميوعة والانحلال ،فنشأ فتى رشيداً... قوي النفس والإرادة... علي الهمة ... طاهر الوجدان...
يسعى نحورجولة مبكرة تبشر بالكثير. لقد كانت أمه دائما وراء تفوقه ونجاحه،
تحفه بالدعوات الضارعة، والكلمات المشجعة التي كانت تدفعه قدماً إلى الأمام :
- أماه أنت صاحبة الفضل الأول في نجاحي، وإليك سوف أهدي كل منجزاتي.
قالت الأم وهي تطبع على جبينه قبلة حانية:
- بل هو تعبك واجتهادك يا ولدي ، وقد أثمر الآن...
- أدامك الله يا أمي ذخراً لي، ووفقني لإرضائك....
* * *